اللاعبـون بالنـار.. والشـرعية الفلسطينية .. بقلم: د. علي الدين هلال
جاءت ردود الفعل الفلسطينية والعربية علي الإيحاءات الصادرة عن قادة حماس بشأن إنشاء كيان فلسطيني بديل لمنظمة التحرير الفلسطينية واضحة وحاسمة في رفضها لأي مساس بمبدأ أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني, وأن هذا الموضوع يجب أن يسمو علي كافة المماحكات اللغوية أو الطموحات السياسية لأي فصيل فلسطيني, وأن التشكيك في شرعية تمثيل المنظمة وحدها للشعب الفلسطيني هو خطوة نحو تصفية القضية الفلسطينية. ولا ينفع كثيرا في هذا المجال تبرير المتحدثين باسم حماس بشأن تلك التصريحات والقول بأن المقصود هو إنشاء كيان فلسطيني آخر يضم الفصائل الفلسطينية المستبعدة من المنظمة, وعلي أن يعمل هذا الكيان بعيدا عنها, أوالقول بأن حماس تعترف بمنظمة التحرير مع وقف التنفيذ.
أن هذا الجدل يزيد من تعقيد الوضع الفلسطيني ويوفر لإسرائيل مخرجا من ورطة اتهامها بعدم الجدية في مفاوضات السلام, كما أنه يسقط من حسابه مسار النضال الطويل الذي خاضته منظمة التحرير علي المستويين السياسي والعسكري لمدة ثلاثة عقود. لقد نشأت منظمة التحرير الفلسطينية بمبادرة من مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في القاهرة يناير1964 لإيجاد صوت فلسطيني بارز في المحافل الدولية, وترتب علي ذلك انعقاد المؤتمر الفلسطيني في القدس في يونيو من نفس العام الذي أنشأ المنظمة وانتخب أحمد الشقيري رئيسا للجنتها التنفيذية ليكون ممثلا للشعب الفلسطيني في كل مكان. وفي عام1974 أعلنت القمة العربية في الرباط اعترافها بالمنظمة باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
وتطور الموقف السياسي والفكري للمنظمة, ففي السبعينيات من القرن الماضي كان هدفها هو إقامة دولة ديمقراطية علمانية علي كل أراضي فلسطين التي خضعت للانتداب البريطاني, وفي عام1987 اندلعت انتفاضة الحجارة التي وضعت القضية الفلسطينية علي جدول اهتمامات الرأي العام العالمي, وفي عام1988 تبنت المنظمة خيار الدولتين أي إنشاء دولة فلسطينية تعيش جنبا إلي جنب مع إسرائيل, وفي مؤتمر المنظمة بالجزائر في نفس العام تم إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي كتب وثيقته الشاعر محمود درويش وقرأه الرئيس ياسر عرفات. وعقب إعلان الاستقلال اعترفت أكثر من مائة دولة بالمنظمة وسمحت لها بإنشاء مكاتب لها وتم الاعتراف بمنظمة التحرير من جانب الأمم المتحدة كعضو مراقب.
ونتيجة للمفاوضات التي بدأت في مؤتمر مدريد عام1991, ثم تطورت بعد ذلك في العاصمة النرويجية أوسلو, اعترفت المنظمة بوجود إسرائيل مقابل الاعتراف الإسرائيلي بالمنظمة, كما تم إعلان المنظمة نبذها للعنف, وتم توقيع إعلان المبادئ بين المنظمة وإسرائيل في واشنطن عام1993. وفي عام1996 تم حذف عدد من بنود الميثاق الوطني الفلسطيني وتعديل بنود أخري التي كانت تشير إلي رفض الاعتراف بإسرائيل والكفاح المسلح ضدها.
وارتبط بهذا التطور السياسي نضال عسكري قدم فيه الشعب الفلسطيني آلاف الشهداء تضمن أنشطة خطف الطائرات المدنية وتفجيرها, والعمليات الفدائية التي قامت بها الفصائل الفلسطينية في داخل إسرائيل, وشهدت مواجهات عسكرية كان أبرزها معركة الكرامة يوم21 مايو1968, والمواجهة مع الجيش الأردني في أيلول الأسود عام1970, وكان من شأن ذلك خروج المقاومة الفلسطينية إلي لبنان. والوقوف ضد الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت عام1982 والتي استمرت82 يوما ثم خروج المقاومة, وعلي رأسها أبو عمار بحرا وانتقالها إلي تونس حيث ظلت هناك حتي توقيع اتفاقيات أوسلو وعودة القيادة الفلسطينية إلي الأراضي المحتلة وإنشاء مؤسسات السلطة الوطنية.
ولم يكن هذا التطور السياسي والعسكري سهلا أو يسيرا بل اعترضته صعاب جمة تضمنت إدارة الخلافات والصراعات الداخلية بين الفصائل الفلسطينية بشكل سلمي, واحتواء الفصائل التي نشأت بدعم من بعض الدول العربية لتكون أدوات لها علي الساحة الفلسطينية, وفك الارتباط القانوني بين الأردن والضفة الغربية, وذلك لإسقاط حجة إسرائيل بأن أراضي الضفة هي أراض أردنية خاضعة للسيادة الأردنية, وبناء مؤسسات منظمة التحرير التي أصبحت فيما بعد مؤسسات الحكم الذاتي الفلسطيني أو السلطة الفلسطينية. وخلال هذا التطور رفضت بعض الفصائل تلك التوجهات وعلق بعضها عضويته بالمنظمة لفترة, ثم عاد إليها بعد ذلك.
وباختصار, أصبحت منظمة التحرير هي البيت الفلسطيني الكبير الذي يستوعب التعددية الفلسطينية, وهي مصدر الشرعية القانونية والسياسية لكافة المؤسسات الفلسطينية الراهنة, فالمنظمة هي التي وقعت علي اتفاقات أوسلو وهي المظلة التي نشأت في إطارها هيئات السلطة الوطنية سواء الحكومة أو المجلس التشريعي. في هذا السياق, تبدو خطورة تصريحات قادة حماس الذين يريدون أولا إعطاء انطباع بأن هناك منظمات مستبعدة من المشاركة في المنظمة, وثانيا أن من حق تلك المنظمات أن تنشئ كيانا موازيا أو بديلا, وثالثا أن من الأرجح أن يكون لهذا الكيان إطار فكري وبرنامج سياسي مختلف.
الحقيقة, أنه لم يصدر بيان رسمي عن حماس تعترف فيه بمنظمة التحرير وبميثاقها أو باتفاقيات أوسلو والالتزامات المترتبة عليها, ولا تعتبر أن مشاركتها في الانتخابات_ التي هي إحدي نتائج أوسلو_ تمثل اعترافا بالاتفاقية, وقادتها يعلمون أنه لا يوجد استبعاد لحماس أو لغيرها من المنظمة, ولكن حماس تطلب من المنظمة إعادة النظر في ميثاقها ومؤسساتها قبل المشاركة والانضمام.
ويستطيع الإنسان أن يتفهم أن بعض التصريحات النارية من هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك له دوافعه الإعلامية والسياسية, ولا يعبر عن حقيقة ما يدور علي مائدة المفاوضات, ولكن أيا كان الأمر فإن الحفاظ علي منظمة التحرير وعلي تحقيق الوحدة الفلسطينية في إطارها هو أولوية قصوي بدونها نكون قد عدنا إلي المربع الأول ونكون قد قدمنا لإسرائيل هدية غالية. ونتذكر الآن ياسر عرفات وندرك أن الذين وضعوا له السم كانوا يعرفون جيدا ماذا يفعلون وما هي عواقبه وآثاره.